
أكثرنا يعلم بقصة بقرة بنى إسرائيل، و لكن هناك من لا يعرفها جيدا و لذلك دعونا نسردها بإيجاز شديد حتى يمسك معنا بخيط المناقشة. تبدأ القصة بوجود رجل ثرى لم يكن له ابن يرثه و كان لديه ابن أخ طماع شره لم يملك من الصبر كفاية على انتظار وفاة عمه كي يرثه و إنما فضل أن يعجل الميعاد فقتله حتى ينعم بالتركة الثمينة، ثم نقل الجثة و وضعها عند مشارف قرية مجاورة معها خصومة مع قرية القتيل حتى تثبت ضدهم الجريمة . فى صباح ليلة القتل وجد القتيل و احتشد الخلق مندهشون مما يرونه و احتدم الموقف و كاد أبناء القريتين يتهمون بعضهم البعض فى قتل القتيل ويختصمون ، ثم شاء الله أن يذهبوا للنبي موسى عليه السلام حتى يحتكمون إليه فى الأمر، و هنا أشار عليهم النبي موسى عليه السلام بأن يأتوا ببقرة ويذبحوها، ثم يضربوا بلحمها جثة القتيل حتى يبعث للحياة مرة أخرى ويخبرهم بالقاتل .
إسترسل بنو إسرائيل في طرح أسئلة تفصيلية لمواصفات هذه البقرة المنشودة . كان أساس هذه التساؤلات نوع من التشكيك والاستهزاء، ثم أخبرهم الله بمواصفات البقرة . كانت المواصفات صعبة الوجود ، من إحدى تلك الصفات أن لونها أصفر فاقع تسر الناظرين . شرع أهل القريتين في إيجاد تلك البقرة حتى وجدوها عند غلام فقير ، ثم اشتروها و أخذ وزنها ذهبا ،ثم ذبحوها و ضربوا بها جثة القتيل و بعث مرة أخرى و أخبرهم بالقاتل و ظهر العدل.
هذه هي القصة المعروفة للناس و لكن ثمت قصة جوهرية داخلية تضيف ملمحا روحانيا إلى جانب إشعال قضية البعث بعد الموت و يوم الحساب هذا الملمح سنلمسه جميعا و ندرك جانبا آخر لم ينل القسط الكافي من الاستبصار.
تبدأ هذه القصة المجهولة قبل وقوع حادث القتيل بعدة سنوات حيث كان هناك رجل صالح، وكان يتقي الله فى البيع و لا يغش رغم ضيق الحال . لكنه كان ممتلئا بالقناعة و اليقين ، و هى أشياء تجعل الإنسان قمة السعادة و الثراء . أنعم الله عليه بزوجة مخلصة و رضيع صغير جاء بعد عمر طويل ، ثم مر بوعكة صحية أدرك حينا اقتراب الأجل ، فخشي على الرضيع و على زوجته و على بقرته الصغيرة . إحتار مليا في إختيار الصادق الأمين الذى يرعى هذه البقرة دون أن يسرقها من ابنه و لم يجد أحدا حوله ثم ذهب بقلبه إلي الله داعيا (اللهم إني استودعتك هذه البقرة فاحفظها لابني حتى يكبر) .
ثم قرر إطلاقها في المراعي و أخبر زوجته بصنيعه ثم مات. مرت السنوات و كبر الإبن حتى اشتد عضده حينها أخبرته أمه بقصة تلك البقرة و خرج باحثا عنها وسط المراعي حتى وجدها بفضل الله عز وجل و مواصفاتها الفريدة ثم عاد بها للمنزل. عندها وقعت حادث القتيل، و وجد هذا الغلام أهل القرية يلهثون وراء شراء تلك البقرة، فقام ببيعها لهم بوزنها ذهبا و أصبح بذلك ثريا جدا .
هنا هى النقطة المفصلية التى إستدعت الكثير من التساؤلات في خاطري هل كانت قضية البعث تخدم قضية إيمانية أخرى ؟ هل كان تنطع بني إسرائيل و استرسالهم في طرح الأسئلة يوجههم لبقرة هذا الرجل الصالح ؟ هل كانت قصة الرجل الصالح إعداد لقصة قضية البعث، أم أن قصة قضية البعث جعلها الله سببا ليستفيد منها إن الرجل الصالح ؟
قياسا على ذلك في حياتنا اليوم، ستجد الكثير من الترتيبات الربانية التي لا نتوقف عندها كثيرا سواء كانت في حياتنا، أو حياة المحيطين بنا، و التي نوكلها إلى الأسباب و غفلنا اللمسة الربانية التي توفق الأسباب مع بعضها البعض حتى تخرج النتيجة التى نراها .
الكثير منا يمر بمحطات في حياته يتعرض لمواقف يختار فيها ما بين الخير و الشر، فهذا يشهد بالحق على الرغم من العواقب ،و ذاك الذي يرفض رشوة رغم ضيق الحال، و هذا الذى يستقيل من عمل يشوبه الحرام، و هذا الذى يبتعد عن الخمر و المخدرات أوقات الحزن والفراغ، و ذاك الذي يعمل بجد و اجتهاد و جعل من ضميره مراقبا و هكذا.
و لكن الكثير منهم لا يدركون وقع ما يفعلونه في السماء، و لا يدركون استحسان الله لصنيعهم في الدنيا ، و لو أدركوا أو استشعروا لتلمسوا توفيق الله لهم في حياتهم، و امتلأت قلوبهم بالسعادة و الرضا و قويت عزيمتهم و أصروا على استكمال مسيرتهم على نفس النهج القويم، و ترفعوا عن تصفيق الخلق و مقاييسهم السطحية و مقاييس الحياة المحدودة .
ما ضرك جهل الأرض بك إن كنت معروفا في السماء!!!
أنار الله قلوبكم وأسكنها السكينة والاطمئنان .