قانون التنافسية وبيولوجيا التنافسية

“يتبلور قانون التنافسية جليًا في الثواب والعقاب أمام الله، ولهذا خُلقت الجنة درجات متفاوتة لضمان تحقيق الجزاء الأوفى ليتنافس فيها المتنافسون”
خُلق الناس علي الاختلاف في الصفات والفكر. وكذلك الحيوان والنبات والجماد، كل خُلق علي الاختلاف. فمن النبات هناك صنوان وغير صنوان. ورغم أن كل منهما يسقي بماء واحد، الا أننا نفضل بعضه علي بعض في الأُكل. وكذلك الحيوان، منه من يطير ومن يمشي ومن يزحف ومن يعيش في الماء ومن يعيش علي اليابسة أو كلاهما. وهكذا نجد أن الخلق كله علي مستوي الكائنات المختلفة سواء جماد أو حي، قد خُلق عمدا علي الاختلاف حتي أصبح هو القاعدة الكبرى لاستمرارية وتطور الحياة.
وفلسفة تعمد خلق الحياة علي الاختلاف لها مدلول واضح وجليّ في تنبيه الإنسان – الذي هو محور الكون – إلي أهمية التكامل وضرورة التنافسية حتي بين أبناء الجنس الواحد سواء نبات أو حيوان أو إنسان. وبالطبع يعود هذا التكامل والتنافسية علي الإنسان نفسه، ليجد الخير بأنواعه ودرجاته في كل كائن حوله. وهكذا نري كيف سخر الخالق الكون كله بدرجات جمال شكله واختلاف وظائفه لخدمة خليفة الله وأمير هذا الكون وهو الإنسان. ولهذا فالاختلاف بين الكائنات هو ظاهرة كونية تعمدها الخالق في خلقه تمهد لقانون التنافسية في الحياة علي مستوي الأفراد والفرد والخلية.
وكما افترض دارون في تجاربه البسيطة في عصره أن التنافس بين الأفراد أنفسهم هو سنة بقاء الأقوى والأصلح، فكذلك أثبت العلم الحديث أن التنافس علي مستوي الفرد نفسه أيضا سبب بقاء كل ما هو قوي وفناء كل ما هو ضعيف. والتنافس هنا بين أفراد الجنس الواحد هو قضية فلسفية وراءها حكمة رائعة وهي ضمان ظهور الأقوى والأصلح الذي يستطيع أن يوفر حياة قوية للكل بما فيهم الضعيف. ومن هنا قد نصل إلي الاشتراكية الحقة، وهي ترك ساحة التنافس للجميع حتي يظهر الأصلح ليقود، ومنه يتم مساعدة الضعيف فقط ليستمر علي قيد الحياة. ولذلك فبقاء الأصلح بين الأفراد هو ظاهرة حياتية تؤكد علي قانون التنافسية في الحياة علي مستوي الفرد.
وقد اودع الله مقومات التنافسية فينا علي مستوي الخلايا في كل نسيج في كل عضو، حيث أُعطيت الخلايا المتشابهة كل المقومات البيولوجية في تساوي مطلق لتقوم بوظيفتها ولكن علي مبدأ التنافس المطلق. فالخلية الأقوى تستمر في الحياة والخلية الضعيفة يتم التخلص منها وتموت من خلال الظاهرة التي نطلق عليها الموت المبرمج للخلية Apoptosis وهو مختلف تماما عن الموت المفاجئ Necrosis نتيجة لأي حادثة قد تتعرض له الخلية. ولذلك فالموت المبرمج هو ظاهرة بيولوجية تؤكد علي قانون التنافسية في الحياة ولو كان علي مستوي الخلية. وقد اكتشف العلم نوعا آخر من الموت المبرمج – أكل الذات Autophagy – وهو أكل الخلايا لنفسها .بمعني أن الخلايا عندما تجوع تبدأ في أكل بعض مكوناتها وخاصة الدهون أو حتي أجزاء من الخلية نفسها . وقد يمتد الأمر إلي قيام بعض الخلايا الجائعة لأكل خلايا مجاورة لها من نفس النوع لتسد جوعها . ومع أن هذا الموت المبرمج مفيد للجسم للتخلص من أجزاء الخلية التالفة أو التخلص من الخلايا التالفة، إلا أن الخلايا السرطانية قد تعلمت هذه الفلسفة واستخدمتها لصالحها .
وعلي مستوي أكبر، فقد أودع الله مقومات قانون التنافس في الظواهر الكونية من تغيير الفصول وتعاقب الليل والنهار وكذلك في اختلاف ألواننا وأشكالنا ولغاتنا. وعقائديا ، قد حثنا الله علي التنافس، بل جعله قانون الحياة الذي يحكم العلاقات ليس فقط بين العبد بل أيضا بين البشر أنفسهم ، وبين البشر والمخلوقات الأخرى في الكون. فما الصلاة والصيام والزكاة إلا تطبيقا لقانون التنافسية. فعلي مستوي العلاقة بين العبد وربه ، من يحافظ علي صلاته وعلي زكاته يكون هو الأقرب والأحب إلي الله. وإذا كانت الصلاة والصيام علاقة تنافسية مباشرة بين الأفراد أمام الله ، فقد شُرعت الزكاة لكي يساعد القوي (الغني في هذه الحالة) الفقير. ولهذا فالزكاة هي قانون الخالق الذي يؤكد علي التنافس بين الناس ولكن بقواعد تضمن حق ومصلحة الجميع. ولذلك فإن قانون التنافسية يتبلور جليا في الثواب والعقاب أمام الله، ولهذا خُلقت الجنة درجات متفاوتة لضمان تحقيق الجزاء الأوفى ليتنافس فيها المتنافسون .
فإذا كانت التنافسية هي قانون الله في خلقه، فتعطيل التنافسية وعن عمد هي محاربة سنن الله وتعمد إفشاء الفساد في الأرض. فإذا تعطلت التنافسية فلا هناك رياضة ولا علم ولا تفوق ولا تقدم ولا تطور، بل تسير الحياة بكل ما فيها من ضعف وجهل حتي تنتهي ذاتيا وتذهب بلا تاريخ تمامًا كالموت المبرمج للخلايا المعطوبة . ولذلك فلا بد من تبني سياسة التنافسية ولو جاءت علي حساب من قبل الجمود. بل وجب علي أصحاب القرار الحفاظ علي الأفضل وحمياته من عبث العابثين وكيد الكائدين وتمييزه عن الضعيف. وهذا التميز ليس فقط لتحقيق مصلحة شخصية للمتميز بسبب تميزه، ولكن الأهم هو إعطاء النموذج والأمل لمن يبغي التفوق والتميز من ناحية . ومن ناحية أخري لحفظ الثروة البشرية للوطن من العبث فهي أهم الثروات .
فلكي يحيا الوطن، فلا بد من تحقيق التنافسية فهي قمة العدل.