في عصر المعلومات المجانية الأمن القومي محط سهام المارقين

الوطنية لا تستقيم إلا بالثقة في الوطن ومراعاة حسابات الأمن القومي للبلاد، فعندما تحدث مشكلة سياسية يتحدث الكل بلغة الخبير السياسي، وعندما تحدث مشكلة كروية يتحدث الجميع كخبير في الكرة، وعندما تحدث مشكلة اجتماعية يتحدث الجميع بلغة عالم الاجتماع، وعندما تحدث مشكلة صحية يتحدث الجميع بلغة الطبيب، وعندما تحدث مشكلة علمية يتحدث الجميع بلغة العالِم، وهكذا في أي مشكلة ما تحدث في مصر لا قدر الله.
ومع أن التعبير عن الرأي والمشاركة في النقاش أمر محمود، إلا أن الخوض من غير المتخصص في التحليل والخروج بتوصيات فشيء خطير يجب وقفه بل وتجريمه حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه نتيجة لتدخل الرأي العام الغير مبني على معلومات كاملة وموثقة، فيجب أن نحترم آراء الخبراء، وألا نشكك في وطنية أحد أيًا كان، وأن نبعد عن العاطفة في الحكم على الأمور خاصة المتعلقة بقضايا الأمن القومي للدولة، وقد علمنا التاريخ القديم والحديث العواقب الوخيمة للأفعال التي كانت تحركها العاطفة والمعتمدة على المعلومات الناقصة والغير موثقة.
“إذا كان التعبير عن الرأي من الذكاء الاجتماعي، فإن في التشكيك برأي الآخر وتخوينه الهدم الاجتماعي”
وقيادة الدول لا تدار بالكلمات الرنانة أو المعسولة أو السفسطائية ولا تدار بكلمة أو برأي أو معلومة نلتقطها من هنا أو من هناك، وقيادة الدول أيضاً لا تدار من على صفحات التواصل الاجتماعي، ولكن تدار بحكمة بالغة من خلال معلومات وحقائق ومستندات قد لا يعلم غالبية الناس عنها الكثير. ومن يدير هذه المعلومات والحقائق هم الخبراء المتخصصين من يستطيعون دراسة الأمر وتحليله وتفسيره وقياسه ثم الخروج بآراء عدة مرتبة بسيناريوهات جاهزة للتطبيق العملي على أرض الواقع سواء كانت قرارات داخلية أو خارجية. وتصبح الأمور أكثر تعقيدًا عندما يختص الأمر بقضايا الأمن القومي التي يُبني عليها تاريخ ومستقبل الوطن.
وعلى خلاف الأمن القومي الذي لا يمكن طرحه للنقاش نظرًا لاعتماده على سرية المعلومات، فمن الصحي جدًا أن يتحدث عموم الشعب في موضوع ما حتى إذا كان يختص بالشئون الداخلية من خلال الإدلاء بالآراء المبنية على معلومات حقيقية، فالشعب لا ينفصل أبداً عن صانعي القرار وهذا هو حق الشعب لدي حكامه. ولكن ليس من حق الشعب أبدًا أن يُفَشل أو يُخوّن حكامه لأن ذلك يعد من صنيع الخيانة الكبرى الأمر الذي يثير ويفشي الفوضى بين صفوف الوطن خاصة الشباب بسبب نقص وعدم دقة المعلومات مما يمثل تهديدًا للأمن القومي وبدون وعي.
ولأن الجميع مهموم بمشكلات وتحديات الوطن، فمن ناحية يجب أن تكون هناك ثقة في النية الوطنية لمتخذي القرار وإن شابها أخطاء من وجهة نظر الآخرين، ومن ناحية أخرى يجب على متخذي القرار توضيح الأمور لعامة الشعب والتمهيد لها ولو برسم الخطوط العريضة شريطة ألا يحتوي الأمر علي أسرار قومية، وهنا قد يحدث حوار مقصود وممنهج لتقريب وجهات النظر بنية قومية هدفها حماية الوطن من عبث العابثين الذين يتحينون الفرصة لبث السم من أفواههم داخل دائرة مفرغة من المعلومات يدور فيها الشباب المتحمس والمتعطش جدًا لكل معلومة في عصر تسوقه المعلومات المجانية.
وقد أشبه ما يحدث من إسراف في النقد اللاذع والذي قد يصل إلي حد التخوين، ضد صانعي ومتخذي القرار، كالإسراف في الإفتاء في الأمور الدينية من غير المتخصصين بدون علم بيّن، وأحيانًا أيضًا من المتخصصين بدون تدقيق، وقد أشبه ذلك أيضًا بالصيدلي الذي يوصف علاجًا لمريض بدون الكشف عليه وبدون دراسة مسبقة متخصصة للمرض وأسبابه وعواقبه. وفي كلا الحالات تصبح عيوب المشاركة الغير مدروسة أكبر من المميزات.
وعصر المعلومات الهائلة والمجانية الذي نعيش بداخله هو ما ساعد على انخراط عموم الناس في المشاركة المفتوحة في الأمور الداخلية والخارجية حيث يستطيع أي منا البحث عن أي معلومة فيقع بين يديه وعلى التو كم هائل من المعلومات من مصادرها المختلفة، وبالطبع الكثير من المواقع تتعمد دس بعض المعلومات الناقصة، وأحيانًا المشوشة، وأحيانًا أخرى تفسيرات تبدو منطقية ولكنها مزودة بحقن سلبية تضر كثيرًا بملفات الأمن القومي قد تخيل على القارئ الغير متخصص أو القارئ الذي لا يلقي بالًا للتفاصيل ولكن فقط لرؤوس المواضيع أو ملخصاتها، وتلك هي سمة العصر الذي نعيشه حيث يعتمد معظم الناس فيه على كبسولة المعلومة دون أن يقرأ أو يستوعب النشرة العلاجية المرفقة لمكونات الدواء.
وأتعجب ماذا يضير الناقد إذا عبر عن نقده بلا تجريح أو تخوين أو مزايدة. فكما أشرت إلى حالة الإسراف والإرهاب الديني الذي يستخدمه البعض في تكفير الآخر أو اتهامه بالتقصير مع الله، فكذلك يفعل بنا الإسراف والإرهاب الفكري الذي يستخدمه الكثير في اتهام الآخر بالخيانة بدون علم. فعلى من ينقد ألا يُخوّن أو يُجرّح لأن من يتخذ القرار لديه المعلومات والتي لو علمها الناقد لتخلص من اتهاماته وفكر بإيجابية مع متخذي القرار للخروج بأفضل النتائج وفقًا لمقتضيات الأمن القومي وأنسب السيناريوهات.
ولنا في قصة سيدنا موسي (التلميذ مع كونه نبي مرسل) مع سيدنا الخضر الرجل الصالح (الذي كان بمثابة الأستاذ لسيدنا موسى) عبرة في هذا القياس، فعندما ثقب سيدنا الخضر السفينة تعجب سيدنا موسى، ولما أقام الجدار تعجب سيدنا موسى، ولما قتل الطفل تعجب سيدنا موسى أشد العجب. وهكذا تعجب سيدنا موسى طوال رحلة الملاحظة والتعلم هذه مع سيدنا الخضر، ليتعلم منه ليس فقط المعلومات ولكن الحكمة في استخدام المعلومات.
فلما انتهت الرحلة تحولت علامات التعجب لسيدنا موسى إلى حالة من الاقتناع الكامل لما رآه من أفعال كان قد تعجب منها بل كاد أن يعترض عليها بعد أن علم المغزى لسيدنا الخضر وراء كل قرار على المستوى البعيد والذي لم يره سيدنا موسى في حينه. وكما حدث ذلك مع سيدنا موسى، فقد حدث أيضًا مع سيدنا يوسف، وسيدنا محمد وكثير من الرسل. ويحدث هذا أيضًا لنا في الكثير من أمور حياتنا لنقر في كل حالة بالإخلاص في العمل والتخطيط مع حسن الظن بالله والناس.
وفي هذا الصدد، تأتي آية كريمة تمثل قاعدة عظيمة لها أثرٌ بالغ في حياة من وعاها وعقِلَها، واهتدى بهداها، قاعدة لها صلة بأحد أصول الإيمان العظيمة: ألا وهو عدم التسرع والحكم على الأمور، وهي قوله سبحانه وتعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]}. وقد ابتدأ الله الآية الكريمة هنا بالكره لأن الله يعلم أن معظمنا يتمني دائمًا أن يرى علامات الخير من أول وهلة ومن أول موقف، ولكي يعلمنا الصبر والتفاؤل والتوكل على الله.
حفظ الله الوطن من كيد الكائدين ومن جهل الجاهلين ونفعه بالعلماء العارفين.
اقرأ أيضاً: السياسة الدولية فيما بعد أزمة كورونا