فيروس كورونا والمناعة النفسية والفكرية

لا أرى ابتلاء فيروس كورونا إلا لقاحًا أراد الله به أن يقوي مناعتنا النفسية والفكرية، بعد أن مرضت المجتمعات ونقصت مناعتها الروحانية.
وكما أن للجسم جهاز مناعي يحميه، ويقيه من الميكروبات الممرضة، ويدافع عنه إذا ما حدث وتسللت بداخله تلك الميكروبات، فكذلك الفرد والمجتمع له مناعة تحميه من ميكروبات الأمراض المجتمعية من غل وحسد وغيبة ونميمة وبهتان ورشوة وظلم وفسق وتنطع وبذاءة وسرقة، وغيرها من مسببات الأمراض المجتمعية الخطيرة، التي إذا ما تمكنت من جسد مجتمع ما نالت منه؛ وأصبح قعيدًا طريح الفراش حتى يقضي نحبه ولا ينفعه حينئذ تكنولوجيا أو مال أو جاه أو كثرة في العدد أو العدة أو العتاد.
وكما أن مناعة الجسد ضد الميكروبات من فيروسات وبكتيريا وطفيليات تزداد بعد التطعيم أو بعد العدوى الأولى والتغلب عليها، شريطة أن يكون الجهاز المناعي سليماً، فكذلك الفرد والمجتمع تزداد مناعته النفسية والفكرية كلما تعرض إلى مسببات الأمراض مباشرة وتغلب عليها، أو تم تطعيمه ضد هذه المسببات من وقت لآخر، فتتكون لديه مناعة تبقى معه طوال العمر، وتحميه من أي عدوى مستقبلية من مسببات أمراض المجتمع.
وكما أن للجسد مناعة فطرية قصيرة الأمد تعمل في أي وقت وبسرعة، لتحميه من أي ميكروب أيا كان نوعه، وكذلك مناعة مكتسبة طويلة الأمد تبدأ بعد انتهاء المناعة الفطرية بدورها، فيكتسب بعدها مناعة ضد المرض، فكذلك الفرد والمجتمع لديهما مناعة طبيعية قصيرة الأمد تعمل بسرعة ضد أي مرض مجتمعي؛ وهي الفطرة التي يورثها الإنسان من أبويه، بالإضافة إلي المناعة المكتسبة طويلة الأمد، والتي يكتسبها من التمرين المتكرر بعد التعرض إلى المهن المختلفة فتبقى معه طول العمر.
وهكذا نرى أن المجتمع لا بد وأن يمتلك مناعة فطرية وأخرى مكتسبة، لتحميه من الميكروبات المسببة للأمراض المجتمعية التي قد تودي بحياة الشعوب بعد أن تصيبها بالآلام المبرحة، بعد أن تكلفه الجهد والمال والوقت والراحة.
وكما أن مناعة الجسد تقوى بالتطعيم ضد الميكروبات المختلفة في مرحلة الصغر ثم تنشيطها من وقت لآخر في مرحلة الكبر، فكذلك المناعة الفكرية والنفسية للفرد والمجتمع، لا بد من تطعيمها في مرحلة الصغر ضد مختلف الميكروبات المجتمعية التي تصيب النفس والروح، ثم تنشيطها من وقت لآخر في مرحلة الكبر حتى تبقى عفية وقوية ومانعة لأمراض المجتمع.
فإذا كان المسئول عن مناعة الجسد هو الجهاز المناعي والذي يقوم بالدفاع عن الميكروبات المختلفة عن طريق قيام الخلايا المناعية بوظائفها المختلفة والمتكاملة، فإن المناعة النفسية والفكرية التي تحمي الفرد والمجتمع تتمثل في الالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال قيام أفراد المجتمع والعلماء بوظائفهم المختلفة والمتكاملة للحفاظ على الثوابت المجتمعية من قيم ومبادئ وأصول تضمن سلامة المجتمع مهما تعرض إلى محن، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” رواه مسلم.
وإذا كانت مناعة الجسم لا بد من تقويتها وتدريبها عن طريق تطعيمها ضد مسببات المرض من وقت لآخر، فكذلك المناعة النفسية والفكرية للفرد والمجتمع لا بد من تقويتها وتدريبها بتطعيمها ضد مسببات أمراض المجتمع من وقت لآخر، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: “وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ” (155) البقرة.
فهذه الابتلاءات التي وعد الله بها عباده هي لقاح لتدريب وتقوية المناعة النفسية والفكرية للفرد والمجتمع على تحمل الشدائد والصعاب، وجائزة التعافي نتيجة للصبر على هذا التطعيم هو الفوز برضاء الله وجناته.
ولأن إصابة الجسد بالأمراض أو تطعيمه بمسببات الأمراض الميكروبية لغرض تقوية مناعته ضد هذه المسببات يتم في مراحل مختلفة من عمره، ولأن عمر المجتمع هو الأجيال المتعاقبة، فكذلك لا بد من تطعيم المجتمع بمسببات الأمراض المجتمعية أو إصابته بالأمراض نفسها كل حين وآخر، خاصة عندما يحيد جيل جديد عن الطريق المستقيم.
وفي العصور المختلفة للأنبياء والرسل كان الله سبحانه وتعالى يبتلي الأمم التي ضلت الطريق وعصت الله ورسله بمختلف الظواهر الطبيعية، إما لتأديبهم أو القضاء عليهم كما حدث مع قوم نوح وعاد وثمود ولوط وفرعون والمؤتفكة وغيرهم، من خلال إرسال الصواعق والأعاصير والرياح العاتية والجراد والضفادع والقمل والدماء والزلازل والبراكين وطير الأبابيل، وغيرها التي كانت تقضي على الكافرين فيحدث الانتقاء من وقت لآخر للمؤمنين الأصحاء.
ولأن عصر الأنبياء قد انتهى بخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، فلم تعد هناك مثل هذه الابتلاءات الكبرى التي كان يرسلها الله على هيئة آيات خارقة تتناسب مع طبيعة العلم في كل عصر، ولكن بالطبع بعد التحذيرات والدعوة المباشرة من الرسل، ومع ذلك لم تتوقف الابتلاءات التي يرسلها الله من عنده على عباده كلما ضلوا الطريق، ولكن قلما يعتبر الناس هذه الكوارث البيئية على أنها ابتلاءات وإنذار من الله بسبب حيودهم عن الطريق المستقيم كما كان يحدث أثناء عصر الأنبياء.
وهكذا نرى أن للمجتمع مناعة نفسية وفكرية فطرية ومكتسبة، والتي لا بد من الحفاظ عليها سليمة بقدر المستطاع، وتقويتها من وقت لآخر وذلك بتقبل الابتلاءات التي يرسلها الله، والجهاز المناعي الفكري والنفسي للفرد والمجتمع يتمثل في التمسك بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد امتدح الله تعالى أمة محمد في كتابه العزيز حين قال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} آل عمران : 110.
وتمثل مؤسسات الدولة المختلفة الأنسجة المناعية التي تعمل فيها الخلايا المناعية للمجتمع، وهم الأفراد من الشرائح المختلفة كل في وظيفته، والعلماء كل في مجاله، الأطباء الذين يقدمون العلاج الوافي والشافي والنصيحة والتوعية للمجتمع باستمرار حتى يتمسك بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدرك الناس فيه الفارق بين المعروف والمنكر كلما اختلط الأمر عليهم أو استجد جديد من مسببات الأمراض المجتمعية.
وجائحة فيروس كورونا أدت إلى شيء من الخوف وتسببت في الجوع ونقص في الثمرات والأنفس، فلنعتبر هذه الجائحة ابتلاء من الله ولنصبر عليها، ولنعد إلى طريق الله أفرادًا وشعوباً وإلة العمل بالمعروف والنهي عن المنكر، ولنعتبر ابتلاء فيروس كورونا لقاحًا من عند الله أراد به أن يطعمنا ضد الأمراض التي انتشرت في مجتمعاتنا كانتشار النار في الهشيم، وإذا أردنا اللوم فلا نلوم إلا أنفسنا، بل علينا أن ندعو الله أن ينجح هذا التطعيم في تقوية مناعتنا الفكرية والنفسية، لعلنا نشفى من أمراضنا المجتمعية التي نالت منا حتى أصبحنا دون أن ندري لها عبيد.
والمتأمل في أحوال الأمم الغابرة، يجد أن بقاءها كان مرهونا بأداء هذه الأمانة، وقد جاء في القرآن الكريم ذكر شيء من أخبار تلك الأمم، ومن أبرزها أمة بني إسرائيل التي قال الله فيها: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} المائدة : 78 – 79.
وإذا ضيعت الأمم التمسك بالمعروف والنهي عن المنكر؛ شاع الفساد فيها، وعندها تكون الأمة مهددة بنزول العقوبة الإلهية عليها، واستحقاق الغضب والمقت من الله تعالى.
وهكذا تعلمنا الحياة أن نفكر في تقوية مناعتنا الروحية ونحن نسعى إلى تقوية مناعتنا ضد كورونا، فإذا كنا نفكر في مناعة القطيع ضد فيروس كورونا، فمن باب أولى أن نفكر في تقوية مناعة نفس القطيع، ولكن ضد ميكروبات الأمراض التي أصابت المجتمع منذ عقود، فإذا صح العقل والروح صح الجسد.
احسنت واجدت بروف محمد