عندما يقتحم الحيوان المنوي عرين البويضة.. مَن يفوز بتحديد الجنس؟

خُلقتْ الحيوانات المنوية من أجل وظيفةٍ واحدةٍ وهي تلقيح البويضة إذا استطاعت وكانت سعيدة الحظ. وبعد التلقيح يأتي دور البويضة في تكوين الجنين بمراحله المختلفة حتى ولادته. ويمكن تشبيه وظيفة الحيوانات المنوية هنا بوظيفة ذكور النحل التي خلقت أيضًا من أجل وظيفة واحدة وهي تلقيح الإناث والتي بدورها تقوم بكل الوظائف في خلية النحل. وإذا كان الأمر كذلك فمن يختار مَن، هل البويضة هي التي تختار الحيوانات المنوية الذي يلقحها أم الأمر عشوائي ومرتبط بالصدفة؟
ومن المعروف أن الحيوانات المنوية تهاجر داخل الرحم وتتسابق وتتنافس في رحلة طويلة وشاقة ومرهقة لكي تفوز بشرف الوصول إلى عرين البويضة. وعلى الحيوانات المنوية في هذه الرحلة الشاقة أن تطبق نظرية البقاء للأقوى والأنسب ليفوز الأقوى فيهم بالإخصاب.
وبنهاية الرحلة، عادةً ما يصل عدد قليل من الحيوانات المنوية حيث يقوم واحد منها فقط في تلقيح البويضة للأنثى. ومن المعروف أيضًا أن الذكر في الإنسان والحيوان، وليس الأنثى، هو المسئول عن تحديد نوع الجنس فيما إذا كان يمتلك كروموسوم إكس (X) المسئول عن جنس الأنثى أو كروموسوم واي (Y) المسئول عن جنس الذكر. فالبويضة التي يخصبها حيوان منوي (X) تكون جنين أنثي والتي تلقح بحيوان منوي (Y) تكون جنين ذكر.
وفور تخصيبها تقوم البويضة بمنع باقي الحيوانات المنوية من دخول عرينها. وبهذا تنتهي قصة الزواج وتتحلل باقي الحيوانات المنوية في الرحم. ولأن معظم الحيوانات المنوية التي تقطع الرحلة بنجاح وتصل إلى مكان البويضة قوية وسليمة.
هناك سؤال يطرح نفسه؛ وهو هل الحيوان المنوي الذي يصل لغشاء البويضة ويلمسها أولًا هو الذي يفوز بدخول عرينها لتنتهي القصة تمامًا كما يحدث في سباق الأولمبياد حين يلمس أسرع المتسابقين الشريط بنهاية السباق ويعلن فوزه، أم أن البويضة هي نفسها التي تختار من يدخل عرينها إذا لامس غشاءها أكثر من حيوان منوي في نفس الوقت. وبمعني آخر هل القرار في تحديد من يفوز بعملية تلقيح البويضة بيد الحيوان المنوي أم بيد البويضة. فهل تترك هذه المهمة للبويضة كما تركت مهمة تحديد جنس الجنين للذكر.
يعني الاحتمال الأخير، المُشار إليه، أن البويضة هي التي تقرر جنس الجنين طالما أنها هي التي تختار بحريتها الحيوان المنوي الذي يلقحها فقد تختار حيوان منوي (Y) أو (X) حسب رغبتها، ولكن بالطبع من المحتمل أن يكون قيام البويضة باختيار الحيوان المنوي ليس له علاقة بالبصمة الجينية له وبالتالي يظل الحيوان المنوي هو المسئول عن تحديد جنس الجنين.
أسئلة كثيرة يحاول العلماء الإجابة ولو على بعضها، وحتى اليوم كانت الإجابة على سؤال كيفية تلقيح البويضة مازالت غير معلومة فلم يكن مفهوم كيفية اختيار البيض للحيوانات المنوية في خصوبة الإنسان. فهل تفضل البويضة نوع معين من الحيوانات المنوية تشعر معه بالألفة وتستجيب للإخصاب به؟ وتبين أن البويضات تتخذ “خيارات” خاصة بها حول ما إذا كان الشريك المحتمل هو الأنسب، وأنه هو الشخص المناسب للقيام بمهمة الأبوة الضخمة.
ففي تجربة مثيرة قامت ولأول مرة مجموعة بحثية تخصص علم الحيوان من جامعتي ستوكهولم ومانشستر، باختبار تفاعل الحيوانات المنوية مع السائل الجريبي الذي يحيط ببويضات الإنسان. فمن المعروف أن بويضات الأنثى في الإنسان تطلق في هذا السائل مركبات تسمى جاذبات كيميائية Chemo Attractants، والتي تتواصل كيميائياً مع الحيوانات المنوية لتجذب منها ما تحبه وتتوافق معه.
ومع أن التركيب الدقيق لهذه المواد الكيميائية في البويضات لم يتم تحديده بعد (وإن كان يشتبه بعض الباحثين في أن هرمون البروجسترون أحدهما)، إلا أن الباحثين قاموا بدراسة التواصل والتفاعل بين الحيوانات المنوية مع البويضة من خلال تعرض الحيوانات المنوية إلي سائل جرابي خاص ببويضات إناث إما من الزوج نفسه أو من شخص آخر. وبالطبع لم تستخدم أي من هذه البويضات المستخدمة في هذا البحث في الإخصاب.
ونظرًا لأن الحيوانات المنوية لا يمكن أن تتعرض لسوائل جرابية من شخصين مختلفين في وقت واحد في الظروف الطبيعية، فقد اختبر الفريق أيضًا الحيوانات المنوية بسائلين جرابيين مختلفين ولكن على التوالي. وقد تم اختبار الحيوانات المنوية والسوائل الجرابية من 60 زوجًا يخضعون للعلاج التناسلي. وقد لاحظ الباحثون أن السائل الجريبي من إناث مختلفة تجذب باستمرار وبشكل مختلف الحيوانات المنوية من ذكور بعينها دون الأخرى، وقد وجد أن البويضات جذبت كل مرة ما بين 18 إلى 40 بالمائة من الحيوانات المنوية من ذكور بعينهم.
والشيق جدًا أن في كثير من الحالات لم تختر البويضات الحيوانات المنوية من نفس شريك الحياة؛ وقد يكون السبب في كون قرار الاختيار في يد البيضة وليس الحيوان المنوي – أي أن تبعات قرار الاختيار تقع على البويضة نفسها وليس الحيوان المنوي الذي تنتهي وظيفته بالإخصاب.
لكن بالنسبة للبويضة، فهناك الكثير من التكاليف التي تأتي بعد الإخصاب المتعلقة بالحمل حتى الولادة وما بعد الولادة. فبسبب هذه المهام الكثيرة والثقيلة، يتوقع أن يكون تلقيح البويضة واختيار البويضات بشأن الحيوانات المنوية انتقائيًا ليكون لديها حرية اختيار من يقوم بتخصيبها تمامًا كما يحدث عندما تختار الفتاة من يتزوجها عندما يتقدم لها الكثير من الذكور. فمن المنطق أن ما ينطبق على الفتاة في زواجها ينطبق على البويضة في تلقيحها، وهو ما أسميه “الزواج الأصغر”.
ويطلق علماء الأحياء على ظاهرة اختيار البويضة للحيوان المنوي الذي يلقحها بالاختيار الأنثوي الخفي Cryptic Female choice، وهذه الظاهرة معروفة جيدًا في بعض الحيوانات خاصة تلك التي يكون فيها التخصيب خارجي، مثل بلح البحر Mussels.
وتبدو ظاهرة الاختيار الأنثوي الخفي منطقية في هذه الأنواع من الحيوانات لأنها تطلق أمشاجها (البويضات والحيوانات المنوية) في ماء البحر الواسع دون اتخاذ أي خيارات سابقة على من يتزوج من. لذا فإن الأمر متروك للبيض في اختيار الحيوان المنوي المناسب لها. كما وجد العلماء أيضًا أن بيض الفئران أثناء عملية (In Vitro Fertilization (IVF يفضل حيوانات منوية بعينها ومن الذكور الأقل قرابة من الناحية الجينية، ولاتزال الأسباب والآليات الكامنة وراء هذه الظاهرة قابلة للاكتشاف.
وبالطبع كان هناك تخوفات من أن تصميم هذه التجربة لم يكن الأفضل، فبعض ظروف التجربة يمكن أن تؤثر على دقة النتائج. فعلى سبيل المثال، البيض المستخدم كان من الفوائض المستخدمة في عمليات التلقيح الصناعي، ومن المعروف أن هذا البيض يتم معالجته ببعض المواد التي قد تغير من بعض الوظائف البيولوجية له. كما أن تركيزات الحيوانات المنوية المستخدمة كانت أعلى بكثير من الطبيعي (20000 نطفة لكل بويضة بدلاً من متوسط حوالي 250) والتي تم وضعها على مسافة قريبة من البويضة من الطبيعي – مما قد يقلل الاختلافات في تأثيرات الجاذبات الكيميائية.
ومع أن هذا أول بحث يقوم بدراسة طريقة تفاعل البويضات والحيوانات المنوية والنتائج تعتبر مبدئية وفي أول الطريق إلا أن النتائج مهمة جدًا، حيث تساعد على فهم بعض أسباب العقم لدى الأزواج الغير معروف أسبابها حتى الآن، مما قد يفتح أبوابًا جديدة للعلاج.
مَن يدري، فقد يقوم العلماء بمجرد علمهم أن البويضة والحيوانات المنوية ليست سعيدة مع بعضها البعض، بابتكار طريقة تقنع البويضة كيميائيًا بأن الشريك الحالي هو الاختيار الصحيح. ومن يدري فبعد تأكيد هذه النتائج على نطاق أوسع فقد تستخدم في اختبار شريك الحياة قبل الزواج. مَن قال إن العلم نور فقد أصاب. وإذا كان العلم نور فإن العلماء هم الذين يضيئون المشاعل ويحملونها بأيديهم وعقولهم لتنير طريق الناس، لعلهم يتفكرون.