بدونها نبدو كالحروف بلا نقط.. الشهوات نعمة أم نقمة؟

عادةً ما تراودني أسئلة صادمة قد تحتاج إلى إجابات فلسفية أكثر منها علمية؛ أسئلة عن الشهوات البشرية هل هي نعمة أم نقمة؟، ولماذا لم يخلق الله لنا عيونًا ميكروسكوبية لترى الميكروبات؟، وعليك أن تتخيل الحال لو كانت بالفعل كذلك. وسؤال آخر مثل لماذا لا تُلتقط أفكار المخ وخواطره عن طريق “الواي فاي” لتظهر مكتوبة على شريحة كمبيوتر؟. وسؤال آخر عن لماذا لا توجد في أعيننا مخروط رابع كما هو في الطيور لنرى الأشعة فوق الحمراء والبنفسجية لنتمكن من رؤية الأشياء والكائنات الغير مرئية؟
وهكذا العديد من الأسئلة التي تصبح الإجابة عليها نوعًا من الخيال العلمي والذي إذا تحقق في خلقنا، لتغير سلوكنا وزادت مخاوفنا بل وتملكنا الرعب من رؤية الفيروسات والبكتيريا والمخالب المخيفة للبق والناموس والبراغيث والقمل وحيوانات أخرى لا نعرفها.
ومن يدري فقد نرى الملائكة المخلوقة من نور والجن والشياطين المخلوقة من النار فيتملكنا الرعب. ومن يدري إذا استطعنا قراءة ما يدور من أفكار في رؤوس الأصدقاء والأعداء أولًا بأول لفقدنا الثقة في الكثير من الأصدقاء وقد لا نحارب الأعداء. ولذلك فأنا أحمد الله على كمال خلقه لنا بما يتناسب مع طبيعتنا الإنسانية الرقيقة رغم ما يمس قلوبنا أحيانًا من قسوة.
واليوم، خطر على بالي سؤالًا من نوع آخر وهو لماذا خُلقت فينا الشهوات البشرية وهل زَرْع البعض منها فينا أثناء الولادة وتَطور البعض الآخر مع العمر، مما يجعل سلوكنا مختلفًا عما لو نُزعت هذه الشهوات منا. وبمعني آخر، هل كان من الأفضل لنا نزع الشهوات البشرية لكي نرتاح من اللهث وراءها ولكي نستمتع ببساطة الأشياء. وفي هذا المقال أحاول أن أجيب على هذا التساؤل.
اكتمل خلق الإنسان بزرع الشهوات فيه وكذلك الحيوان، وقد يكون أيضًا في النبات. وقد تكون الشهوات البشرية جسدية كشهوة المال والطعام والماء والجنس، ومعنوية مثل شهوة الجاه والسلطان والشهرة.
وهناك من الشهوات المشتركة بين المخلوقات الحية الثلاثة من الإنسان والحيوان والنبات؛ وهي الشهوات الجسدية مثل الماء والطعام والجنس، ولذلك فهي شهوات غريزية ولا تعتمد على وجود العقل أو حتى المخ. وتكمن أدوات بعض هذه الشهوات البشرية فينا مثل شهوة الجنس والطعام وبعضها خارج حدودنا مثل شهوة المال والسلطان والشهرة.
ويتراوح نوع وكم هذه الشهوات الثلاث في هذه المخلوقات فتبدو في أبسط صورها أو تتعقد فلا نفهم منها كثيرًا سوى الشعور بها. فكل من الإنسان والحيوان والنبات يأكل ولكن الإنسان قد يأكل بيديه أو حتى قدميه وقد يأكل بالشوكة والسكينة وقد يتفنن في أنواع الأكل وطريقة طهيه. أما الحيوانات من أكثرها تطورًا مثل القردة حتى الأميبا وهو حيوان وحيد الخلية يأكل مما يقدم إليه في بيئته التي خلق وتربي فيها. أما النبات فيأكل ويشرب من التراب والطين.
وهكذا الحال في بعض الشهوات البشرية كشهوة الجنس، حيث نجد النبات رغم بساطته يتكاثر بشهوة. فمع أن الأعضاء الذكرية والأنثوية موجودة في نفس النبات إلا أن حبوب اللقاح تطير طيرًا من متاع (العضو الذكري) أحد النباتات لتسقط في فوهة طلع (العضو الأنثوي) من نفس النوع لتلقحه.
وهكذا، في الكثير من الحيوانات التي تشبه النبات في وجود كلًا من الأعضاء الذكرية والأنثوية في نفس الحيوان. شيء عجيب حقاً حيث نجد الحيوان يطلق حيواناته المنوية وبويضاته إلى الماء ليتم التلقيح الخارجي. أما الحيوانات العليا وخاصة الثدييات (التي ترضع مثل الإنسان من ثدييها) فتتناسل مثل الإنسان تمامًا من خلال شهوة عارمة لا يوقفها حياء ولا خصوصية عكس الشعور بالحياء والحاجة إلى الخصوصية التي يتمتع به الإنسان.
ومع أن التناسل من الممكن أن يتم من خلال تزاوج لا يعتمد على شهوة إلا أن وجود الشهوة يعطي متعة وسعادة ورغبة تحرك الإنسان وحتى الحيوان إلى السعي وراء تحقيق التزاوج والتناسل برغبة وحميمية بلا ملل.
وإذا تحدثنا عن المال والسلطان والشهرة سنجد أنها شهوات معنوية بمعني أنها غير موجودة بجسد الإنسان ولكنها تعتمد عليه في تحقيقها وتنعكس على مظهره وسلوكه بعد تحقيقها.
كما أن هذه الشهوات يتميز بها الإنسان فقط دون الحيوان أو النبات كما أنها تختلف نسبيًا من إنسان لآخر. صحيح أن بعض الحيوانات مثل الأسود ولدت متميزة بالقوة والسيطرة إلا أن هذه الصفات غريزية بمعنى أن الأسود لا تسعى وراء تحقيق ذلك بل هي ولدت لذلك الغرض.
ولذلك فإن تحقيق هذه الأنواع من الشهوات البشرية يحتاج إلى العقل وإلى السعي والاجتهاد والتميز والإبداع والأخلاق والصبر وهي الصفات التي يتميز بها الإنسان دون المخلوقات الأخرى. ولذلك فأنا أعتبرها “شهوات سوبر” أو ذات طباع خاص.
والآن، ما هي الحكمة الكبرى وراء خلق هذه الشهوات في الإنسان ووجودها بمستوى نوعي وكمي.
أعتقد أن السبب الرئيسي في وجود الشهوات البشرية لدينا؛ هو جعل الإنسان يشعر بلذة ما يفعله والسعي وراء تحقيق سقف طموحه فيشعر بقيمة الأشياء لمعيشته للاستمتاع بمفاتن الدنيا وزيادة تعلقه بها، بالرغم من علمه ويقينه بأنها إما زائلة عنه أو هو زائل عنها.
وبالطبع يخلق هذا الشعور في الإنسان الارتباط بنعم الحياة ولذتها مما يجعله يصدق بل يلهث وراء أي دعوات بوجود هذه الشهوات البشرية في الدار الآخرة واستمرارها هناك في حالة استقامته وفوزه برضاء الله والجنة.
أما خوف الإنسان من حرمانه من تلك الشهوات في حالة عصيانه؛ مما يحث العاقل على اختيار طريق الصلاح والصبر عليه أملًا في الفوز بهذه الشهوات في الدار الآخرة وبصورة مستدامة. فما بالنا لو كان الوعد اليقين من الله لعباده الصالحين بأن شهوات الدنيا لا تقارن في لذاتها بشهوات الآخرة.
ليس هذا فقط، بل يصل الأمر أن الشهوات البشرية المحرمة في الدنيا مثل شرب الخمر حلال في الآخرة. وفي الجنة يفوز أهلها بالحور العين والثمار بقطوف دانية وأفنان، ناهيك عن النوعية والكمية والطعم والتنوع والاستمرارية.
وعليه، أرى أن وجود الشهوات في خلقة الإنسان هو استراتيجية من الخالق لجعل المخلوق يتذوق اللذة لكي يستمتع بها في الدنيا ولكي يشتاق إليها في الآخرة فيعمل على الفوز بها. هذه هي فلسفتي المتواضعة في فهم الشهوات والسبب الرئيسي وراء غرسها في الإنسان. والله أعلم.
اقرأ أيضًا: «دعوها فإنها منتنة».. الفراغ كلمة السر وراء رذائل المجتمع