الفضفضة مع الله.. المصباح المرشد في ظلمات الطريق

خلق الله الناس وزرع فيهم رغبة بل حب وعشق التواصل، فالتواصل هو سر حياة البشر ليتعارفوا فيتكاملوا وينفع بعضهم بعضًا، ولذلك فتواصل البشر وعلاقتهم تُبنى على المنفعة المتبادلة والتي يجب أن تكون تكافلية في أغلب حالاتها وليست بتطفلية فتؤدي إلى المشكلات المجتمعية، بعكس التحدث مع الله الذي يختلف كليةً. وعندما يتواصل البشر فيما بينهم فرادى أو في مجموعات أو دول، لابد وأن تكون هناك ترتيبات بعينها لترتيب هذا التعاون لخروجه في أفضل صورة وبدون أدنى آثار جانبية، وقد يصل مستوى هذه الترتيبات إلى بروتوكولات معقدة والتي عادة ما تفسد ود الاجتماعات وتحولها إلى مجرد جدول أعمال.
وحتى على مستوى الأفراد بين الأصدقاء وزملاء العمل، يبقى هناك الكثير من التحوط والحرص والقلق والخوف من عدم فهم الآخر بوضوح، ولذلك فدائمًا ما تنشأ المشكلات في التواصل المجتمعي خاصة في مجتمع اليوم الذي أصبح مفتوحًا على مصرعيه بكل الطرق والوسائل التكنولوجية مما زرع في كل فرد منا حب الإطراء والإصغاء والحديث والإعجاب، ولذلك أصبحت عيوب التواصل الفردي والاجتماعي أكبر من مميزاته سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حتى انعكست بصورة سلبية جلية وللأسف على العلاقات الزوجية والأسرية.
وهكذا أصبحت النفس البشرية بين قوة جذب الرفاهية في التواصل المجتمعي التي تربي فيه عالمًا افتراضيًا خاويًا وإن كان مسلياً، وقوة جذب أخرى إلى داخله ولكنها قوة ضعيفة إذا ما قورنت بالقوة الخارجية الطاردة، فما هو الحل وراء هذا القصور الذي أحدثته التكنولوجيا وأصبح الإنسان ممزق بين واقع مادي خيالي منساق إليه في كل لحظة وبين رغبات فطرته العذبة الدفينة في روحه التي وهبها الله له تسري في دمائه حتى حين، ما هو الحل العملي واليومي بل واللحظي أمام هذا الإنسان الممزق لكي يعود إلى فطرة نفسه فيهدأ ويستمتع بها ويفوز بعواقبها الطيبة التي وعدها الله عباده يوم الدين.
لماذا نقصد كل الأبواب المغلقة في الأرض وننسى أن نطرق باب الله المفتوح بعرض السماء!
الحل هو الفضفضة أو التحدث مع الله في لقاءٍ يكون بمثابة تقرير مقروء أمام الله وبلا خجل وبلا خوف وبلا قلق، تقرير يفضح الإنسان فيه نفسه أمام الله ويعريها ويوبخها ويؤنبها في شفافية مطلقة وبلا أي خجل، تقرير مفصل يقرؤه من القلب مباشرة بدون حفظ أو إعداد مسبق، تقرير شفهي تلقائي غير مدون ولا مكتوب، ببساطة تقرير على سجادة الصلاة إما قبل الدخول في الصلاة ومقابلة الله أو بعدها ليكتمل الحديث مع الله بعد أن تكون وقد شعرت بطاعة الله تسري في عروقك، وحبه ينضح من قلبك، والخوف منه قد تبدد مع زفراتك وتبخر.
ستجد يد الله تمتد إليك لتلطف الدماء الساخنة في عروقك دون أن تراها فيكون الله أقرب إليك من حبل الوريد، هذه المشاعر والأحاسيس ليست خيالاً علميًا أو أوهاماً أو تخيلات من صنع العقل ليرتاح، بل هي حقيقة ربانية لعباد الله عندما يقبلون عليه في أي وقت وأي زمان وأي مكان، وفي أي هيئة كانت، فقط تحتاج أن تجرب وسترى كيف تكون النتيجة، جرب هذا اللقاء لكي تتأكد من نفسك وبنفسك وتعرف كيف يكون الدواء الذي يخلصك من هموم حياتك، ليس بالضروري بالقضاء عليها ولكن الأهم بالتغلب عليها بقوة مستمدة من الخالق، قوة فيها عذوبة قد تجعلك تستعذب مواجهة الهموم والمصاعب والأحزان والتغلب عليها، وهكذا كان دأب الأنبياء والرسل وهو تحمل الصعاب والشدائد وسؤال الله أن يعينهم على تحملها ففي القدرة على التحمل لذة لا يعرفها إلا من ذاقها.
وجمال التحدث مع الله أنه لا يحتاج إلى توقيت أو زمان أو مكان أو ترتيبات أو مواعيد مسبقة أو بروتوكولات محددة ولا جدول اجتماعات ولا محضر أعمال، ولا يحتاج وجود آخرين ينظمون ويرتبون، الموضوع بكل بساطة لقاء بينك وبين الله تشكو فيه همومك وديونك وقلقك على نفسك والآخرين بطريقة تلقائية وعفوية وبأي لغة وبأي تعبير كان، لقاء تسعد به وأنت تأكل وأنت تشرب، وأنت قائم، وأنت جالس، حتى وأنت على جنبك، لقاء لا تحتاج فيه إلى أي طقوس ولا نداء ولا حراس ولا أساليب عرض أو تكنولوجيا، فعندما تريد مقابلة الله ليس عليك إلا أن تتحدث مباشرة إلى الله في الزمان والمكان الذي تقرره أنت وبالطريقة التي تختارها.
فإذا كنت في وعكة صحية تحدث مع الله، وإذا كنت في تيه من اتخاذ قرارات مصيرية تحدث مع الله، وإذا كنت تشتكي من الظلم تحدث مع الله، وإذا اختلطت عليك الأمور تحدث مع الله، وإذا شعرت بحنين إلى من فارقوك تحدث مع الله، وإذا شعرت أنك ظالم تحدث مع الله، وإذا شعرت أنك مذنب وعاصٍ تحدث إلى الله، وإذا شعرت أنك مغلوب على أمره تحدث مع الله، حتى إذا شعرت أنك سعيد احرص على التحدث مع الله وفي كل الحالات ستجد الله بجوارك، ستشعر بعبرات تتحرك من مقلتيك وتنساب على وجنتيك برقة وعذوبة لتغسل همومك وأحزانك، قطرات من دمعات معبأة بإنزيمات الراحة والسكينة والهدوء وهرمونات السعادة.
وقد يصل الأمر وتنهمر الدمعات ويتشنج قلبك من الإحساس بالراحة التي كنت تبحث عنها، فتصبح كالطفل الذي عثر على أبويه بعد أن فقد ظلهما في زحمة الطريق، ستشعر بصوت الصمت يسري في عروقك، وبتنهدات نبضات قلبك كترنيمات تعقم صدرك وبأنفاسك وكأنها حبال من نور تمتد من قلبك إلى عنان السماء، قد لا تنتاب النفس هذه المشاعر كل مرة يتحدث فيها الإنسان مع الله، ولكن مؤكد أنها ستحدث مرة أو مرات خاصة عندما يكون الحديث مع الله كله شجون ويعلو في سكون الليل بعيدًا عن ضوضاء النهار وصخب أحداثه.
اجعل لقائك مع الله لقاءًا دوريًا على الأقل مرة كل أسبوع وخاصة قبل أو بعد صلاة الفجر عندما تكون جوارحك قد استكانت وروحك الهائمة في عروقك مشتاقة إلى اللقاء مع من نفخها في جسدك، اجعل لقاء الله لقاءًا خاصًا لتفرد فيه كل ما تحتاج أن تبوح به لنفسك ولا تستطيع البوح به إلى أقرب الناس إليك، لن تجد باباً آخر تلقي عنده خواطرك وهمومك ومخاوفك وطموحاتك ومظالمك سوى باب الله الذي لا يغلق أبدًا في وجه من يقصده، لماذا نقصد كل الأبواب المغلقة في الأرض وننسى أن نطرق باب الله المفتوح بعرض السماء، انهض وخذ ركنًا هناك وحدك بعيدًا عمن حولك وتحدث إلى الله الآن وستجد النتيجة فورية في حنايا قلبك.
التحدث مع الله وقاية من الاكتئاب وعلاج للقلق والهموم والأحزان قبل أن تفتك بقلبك ويمرض ويصبح فريسة لوسوسة الشيطان وعلب الدواء التي قد تريح جوارحك ولكنها أبدًا لن تريح خواطرك المنهكة، فالنفس المنهكة لا تطيب إلا بالحديث والفضفضة مع من خلقها وسواها فألهمها فجورها وتقواها.
اللهم اهدي نفوسنا تقواها فأنت خير من زكاها ..
اقرأ أيضاً: بيوت الله لا تغلق