الحياة ما بين الحراك الذري والفكري

جُبلت الأشياء وكذلك النفس على الحركة المستمرة والاهتزاز المتناغم طالما الروح تسري في الجسد، والفارق بين الكائن الحي والجماد يكمن في دورة حياة الحركة، فالجماد به أسباب الحركة ممثلة في إلكتروناته التي تدور في فلك ذراته وحول نواته، وهذا هو الحراك الداخلي الصامت، والذي قد يتحول فجأة وبسرعة فائقة إلى حراك خارجي بمجرد أن تفقد ذرة الجماد أحد إليكتروناتها من مدارها الخارجي وتستقبلها ذرة أخري، ليحدث حراك إليكتروني بين الذرات المعطية والمستقبلة.
ويؤدي هذا الحراك الذري إلى تغيير في الأيونات والشحنات، والذي بدوره قد يؤدي إلى إحداث تزاوج بين الذرات المتماثلة لتكوين عنصر ما، أو الذرات المختلفة لتكوين مواد جديدة بصفات جديدة، وهذا مايحدث دائماً بين الذرات المتجاورة في بيئتها الذرية، مثل ذرة الأكسيجين عندما تدخل في حراك مع مثيلتها لتعطي غاز الأكسيجين الذي نعرفه ونستخدمه في الشهيق، أو تتفاعل وتتحد مع ذرة أخرى مثل الهيدروجين لتكوين الماء الذي نشربه.
وهكذا نجد ذرات الجماد دائماً في حركة داخلية صامته وساكنة، حتى إشعار آخر يدفعها إلى حراك خارجي مع ذرات من نوعها أو أنواع أخرى، لتسير حياة الجماد حولنا في بيئته الطبيعية دون خلل كما أراد له الخالق، ولنرى الأشياء بأحجامها وأشكالها وألوانها وملمسها وطعمها كما تعارفنا عليه، وهو ما نسميه فسيولوجية الجماد.
ولكن إذا ما تم إحداث خلل ما في هذه السيمفونية الجمادية في حركتها الصامتة أو المتأنية، إما بتوقيف هذا الحراك أو بتعجيله؛ تتغير طبيعة الأشياء بدرجات متفاوتة تعتمد على طبيعة الذرات المشتركة في صنع المادة، وقد يؤدي هذا الخلل إلى هياج منقطع النظير كما يحدث في حالة الانشطار النووي الهائل والذي يتبعه الانفجار النووي، أو يحدث حالة تجمد تام مثل ما يحدث في تحويل الماء السائل إلى ثلج أو تحويل الهواء إلى سائل أو السائل إلى هواء.
إنه الحراك الذي أودعه الله في خلقه الجامد بحساب، ولكنه لم يجعل هذا الحساب جامدًا لا يمكن تغييره، بل جعل فيه أسباب التغيير، وأعطى لعقل الإنسان ليس فقط القدرة على فهم طبيعة هذا الحراك، ولكن أيضا على تغييره لو أراد ليدرك طبيعة الأشياء، لعله يؤمن بأن الله خلق كل شيء بمقدار.
وكما يحدث في الجماد من حراك داخلي وخارجي من خلال ذراته، فهكذا أيضًا يحدث الحراك في الكائن الحي سواء كان نباتًا أو حيوانًا أو إنسانًا، فهو ذاته مكون من ذرات، والفارق البين بين حراك الجامد وحراك الحي هو في قدرة ذرات الكائن الحي على الانتقال من مكان إلى مكان داخله للقيام بوظيفة محددة وجوبية لبقاء الكائن في حالته الطبيعة التي نراه عليها، كما نرى نمو ساق النبات لأعلى وجذوره لأسفل وأوراقه على الجوانب، وكما نرى في الحيوان الزاحف والطائر والدواب كالقرد النطاط، وكما نرى بالطبع في الإنسان في حركاته وصفاته المختلفة.
وعلى مستوى الكائنات الحية نجد الإنسان مختلفًا عن الجماد والنبات والحيوان في حراكه، فبالإضافة إلى الحراك الداخلي والخارجي لذراته، وبالإضافة إلى انتقال ذراته داخله، ففي الإنسان أيضًا حراك من نوع آخر وهو الحراك الفكري والعقلي.
فإذا كان الحراك الذري سواء في الجماد أو الكائن الحي مبرمجًا ليعطي صفات ثابته لإعطاء الكائنات أشكالها ووظائفها المتعارف عليها، إلا أن الحراك العقلي غير مبرمج بل لا يخضع فقط لحراك إلكترونات الذرات، بل إلى حراك آخر فوق الإلكترونات وفوق مستوى الذرات وما يتبعه من حراك نفسي ثم حراك عاطفي وكلاهما توابع.
وكما يحدث في الحراك الذري من توقيف أو تعجيل وما يتبعه من تغيير وقتي أو دائم في طبيعة الأشياء، كذلك يحدث في الحراك العقلي والنفسي والعاطفي، فقد يتباطأ أو بتجمد أو يُعجل هذا الحراك مما يؤدي إلى خلل في بصمة النفس في المعاملات الإنسانية من حب وبغض، وفرح وحزن، وإبساط وغضب، وقد يصل هذا الحراك إلى الجنون العقلي أو العاطفي وما يتبعه من تصرفات غير مسئولة.
وعلى مستوى الحراك الغير مبرمج بأنواعه العقلي والنفسي والعاطفي، نجد أن لكل إنسان كوده الخاص في هذا الحراك، كود يجعل منه متفوقًا أو متبلدًا في الرياضة أو الفن أو الرسم أو الشعر أو الكتابة وهكذا، وروعة هذه الأكواد أنها تجعل في كل منا ميزة يتفوق بها على الآخرين، مما يحدث حالة من التكامل والاحتياج والتذوق العام بين البشر، إنها حقًا حكمة الخالق الذي خلق كل شيء بمقدار.
وبسبب هذا الحراك الفكري المؤكد، نستمتع بأفكارنا أو ننقدها أو نضيف إليها أو نطمسها، وبهذا الحراك الفكري نتفاعل مع الجماد والحياة، لنعبر عن حبنا للحبيب في كلمة أحبك أو في بيت شعر أو في قصيدة أو رواية كاملة، وبهذا الحراك الفكري نتعلم ونتشاور ونفكر وتقرر ونتابع، وبهذا الحراك الفكري نطلق الآه من مكامنها الدفينة أو الضحكة من فوق الشفاه.
ولأن الله خلق الأشياء على التزاوج، فقد جعل أسباب الحراك العقلي والنفسي والعاطفي في الحراك الذري الذي من دونه لا تموت الحياة، فما نراه جامداً هو وبدون شك سبب الحياة.
وما أجمل الحراك عندما تحلوا به الأشياء، ويسمو به الفكر، وتهدأ به المشاعر.