التطور التكنولوجي وتطور المعصية

خلق الله عباده على الخير والشر، فالمعصية ليست عيبًا في الإنسان لأنه جُبل عليها، أما العيب فهو عدم الإعتراف بها والتوبة عنها توبة نصوحة. ومنذ خلق الإنسان وهبوطه إلى الأرض أصبح تحت تأثير أربعة انواع من الوسوسة: وسوسة نفسه التي جُبل عليها، وسوسة الشيطان هى ثأر لن ينتهي، ووسوسة الناس والتي تزداد قوتها بازدياد عدد البشر وزيادة توصلهم ، وسوسة عوامل البيئة التي تحيط به ويعيش فيها من ثقافة وتقاليد وعادات. وبالطبع كلما زاد تعقد وتطور البيئة المحيطة وخاصة التكنولوجيا كما في عصرنا هذا، كلما أثر ذلك بالتبعية على درجة وسوسة النفس، ووسوسة الشيطان ووسوسة الناس، وبالتالي المجموع الكلي للوسوسة كما ونوعا.
ومع أن نوعية المعاصي والذنوب التي توسوس بها النفس والشيطان تتمحور في أمور متكررة في كل زمان ومكان، مثل الزنا، السرقة، القتل، الغيبة والنميمة والبهتان، والكذب، والظلم، والنفاق إلا أن الدوافع وراء ارتكاب هذه الآثام وطريقة إرتكابها تختلف إلي حد كبير من زمن إلي زمن، ومن مكان إلى مكان، حسب مدى تطور التكنولوجيا والعلاقات الإنسانية في هذا الزمن وهذا المكان.
فإذا عدنا لأول جريمة في التاريخ وهي قتل قابيل لأخيه هابيل بسبب الغيرة من تقبل قربان هابيل ورفض قربانه، نجد أن قابيل وقف عاجزًا أمام طريقة دفن جثة أخيه، مما يدل على أن دافع القتل لا يتغير مع الزمن ولكن قد تتغير طريقة القتل، وطريقة التخلص من الجريمة. ولما عاد قابيل سريعًا إلى نفسه السوية وجد نفسه عاجزًا تمامًا على أن يواري جثة اخيه . ولما حار به الأمر لاحظ أن الغراب، رغم أنه طائر بلا عقل، ينبش في الأرض ليعلمه كيف يواري جثة أخيه بالفطرة المبرمج عليها خلقه. وبالطبع تطورت منذ ذلك الوقت أدوات جريمة القتل، وآلية الهروب منها، بالرغم من أن الدوافع البشرية لم تتطور كثيرًا. و على ذلك تطورت، ليس فقط طريقة ارتكاب المعاصي تطورًا هائلًا، بل أيضًا الدوافع من ورائها وذلك بسبب تطور التكنولوجيا وتطور وتعقد وتشابك العلاقات الانسانية وسهولة التواصل اليومي بل اللحظي بين الناس في العالم أجمع بعد أن ذابت حدود الدول والقارات.
ولذلك فالإنسان المعاصر، مقارنة بالإنسان الأول، يقع على كاهله ضغوط هائلة من المغريات والرغبات لارتكاب المعاصي بسبب تطور المجتمع، ووجود تنافسية محلية ودولية مفتوحة لم تكن موجودة من قبل. فإذا كان ارتكاب المعصية في العصور الغابرة محصور في دائرة محدودة جدًا حول الفرد تتمثل في أهله وأقاربه ثم ازدادت بعض الشيء لتعتمد فقط على من يتعامل معه وبالتالي، فقد كانت فرص ارتكاب المعاصي محدودة، فإن هذه البيئة قد اتسعت، وتشابكت سواء على مستوي الأسرة أو العمل، أو ما وراء العمل في أماكن اللهو والتسلية المغلقة والمفتوحة، أو من وراء شاشات برامج التواصل الاجتماعي، وهو ما جعل ارتكاب المعصية يتسع ولا يعتمد على مكان بعينه. ولذلك فإذا ما قارنا فرص ارتكاب المعاصي بين الإنسان في العصور الماضية والإنسان الحديث في الخمسين عامًا الماضية و حتى الآن الذي عايش بدايات التلفاز ثم تطوره ثم التليفون وتطوره إلى المحمول ثم تكنولوجيا الإنترنت اللاسلكية صوت وصورة، فكل الشفقة على الإنسان المعاصر في مدى قدرته على تجنب أسباب المعاصي والذنوب في ظل وجود هذا الكم الهائل والمتنوع من المعطيات والدوافع المتاحة له في السر والعلن.
وكنت أظن أن ما حدث من تطور تكنولوجي هائل يزيد من إيمان الإنسان، ولكن على العكس أرى أن الإيمان أصبح سطحيًا ونظريًا وهشًا. فقد كان الإيمان بالله في العصور الماضية قويًا وعميقًا وعمليًا وكان يعتمد على القلب والتصديق بآيات الله الغيبية في الكون، وذلك لأن العلم كان بسيطًا وغيرعميقً ولم يصل إلى دقائق الأمور وتفاصيلها على مستوي الخلية والجزيء والذرة ومكوناتها والتعامل معها. والآن ومع أن الأسباب العقلية للإيمان بالله في عصر التكنولوجيا، والرقمنة، والواي فاي، وانترنيت الأشياء الغير المرئيه أصبحت بينة وجلية على مرأى ومسمع من الكبير والصغير تجعلنا نصدق الغيبيات التي كان الاوائل يؤمنون بها فقط دون ان يروها، إلا أن الإيمان بالله أصبح سطحيًا وضعيفًا ونظريًا. أضف إلى ذلك أن الله جعل لنا آيات ثابتة نشاهدها بأعيننا ليل نهار ولا تتغير ولا تتبدل، مثل الموت، وشروق وغروب الشمس، وارتفاع السماء بلا أعمدة والبحار التي تحيط بنا وفصول العام التي تدور بنا وغيرها من الآليات الكبرى التي لم يستطع أحد الآن أن يغيرها حتى تكون دليلا لنا وبرهانا بأن الدنيا مهما تزينت وتجملت فهي زائلة، وأن وراء هذا الكون خالق أعظم من مصلحة الجميع أن يؤمن به ويتبعه ويتوب إليه إن عصى .
ورغم أن جميع البشر من أول سيدنا آدم حتى يومنا هذا يؤمنون بأن الرحيل عن هذه الدنيا هو الحقيقة الدامغة و يرونها كل يوم, فإن هذا لم يزد درجة الإيمان أو يرسخها في قلوب الناس. فهل التطور المطرد في التكنولوجيا، وحرية التواصل بالوسائل التكنولوجية المختلفة بلا رقيب أو عتيد أصبحت وبالًا علي الإنسان جعلته يفكر بسطحية تعتمد على البحث عن المعلومة التي يصنعها لنا الآخرون دون أن ندركها عن فهم وعمق. وهل قول الله سبحانه وتعالي “حتى إذا أخذت الأرض…” في سورة يونس “إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) ينطبق علي هذا العصر الذي نعيش فيه الزخرفة والزينة التكنولوجيا بكل أنواعها ومستوياتها.
نعم، فما من مرة أتدبر فيها معاني هذه الآية الكريمة من منطلق التكنولوجيا الرقمية الرهيبة المعاصرة، إلا وأشعر وأنها تنطبق على عصرنا هذا، بالتحديد وأننا قريبين جدا من هذه اللحظة، وأشعر بقشعريرة وخوف من هذه اللحظة الرهيبة التي تتحول فيها الأحلام اللانهائية للبشرية الى بداية النهاية.
وحدوث هذه اللحظة ليس بجديد على البشرية، فقد حدث ذلك مرات عدّة لأقوام سبقونا على مر العصور وجاء ذكرهم في القرآن والكتب السماوية المختلفة. ومنهم على سبيل المثال قوم عاد وثمود وسبأ وفرعون وغيرهم في الأزمنة الغابرة. وحديثا ومنذ ١٧٠٠ عاما حدث ذلك أيضًا مع قوم مدينة “بومباي” الإيطالية التي زرتها بنفسي عام ١٩٩٤. فقد كانت هذه المدينة تعج بكل مظاهر الحضارة منذ ١٧٠٠ عاما مقارنة بالمدن الأخرى في وقتها. ولكن أهلها استباحوا الفحشاء والمنكر علانيةً لفترة طويلة، وجاهروا بها و قننوها ولم يتوبوا عنها، فأتاها أمر الله في صورة بركان هائل يسمى بركان فيزوف، وهو جبل قريب من المدينة رأيته بنفسي. أدى هذا البركان إلى ارتفاع الرمال والأتربة والصخور المنصهرة أمتار عدة فوق المدينة، ثم طمسها تماما في لحظات قليلة، لدرجة أن جثث السكان وجدت كما هي محنطة بالأسمنت الذي غمرها تماما كما رأيت بنفسي. وتم اكتشاف هذه المدينة بالكامل علي يد مهندس مدني مصادفة وهو ينقب بالقرب من جبل فيزوف وبركانه الخامد من بعد ثورته الأولي وقتها حتى الآن. ومن يدري فقد يثور مرة أخرى في وقت مالا نعلمه ولا نتوقعه .
نحن نعيش في زمن التكنولوجيا الرقمية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ، حتى أصبحت خدمات الحياة مخزنة تحت شاشة الموبايل، نخرج منها ما نشاء، ووقت ما نشاء، وكيفما نشاء. عالم تحركه إشارات لا نراها ولا نتخيلها رغم أننا نستعملها في حياتنا اليومية. وأصبح الإنسان المعاصر تحت ضغط تكنولوجي هائل، جعله بالتبعية تحت ضغط نفسي هائل أمام المغريات المادية والمعنوية والغرائزية، مما يسهل عليه ارتكاب المعاصي والذنوب بكل أشكالها حتى ولو باللاسلكي. وأصبح وقت الإنسان بضيع هباءا وراء هذه الشاشات، بل وصل الأمر إلي ارسال واستقبال رسائل دينية دون التدبر والتفكر فيها كموضة تكنولوجية حتى أصبح معظم الناس مستهلكين لمعلومة لا يعرفونها ولايدركونها، وقل إنتاج المعرفة من أناس المفروض على عاتقهم انتاج المعرفة من خلال التفكر والتدبر وترك الأثر.
بل ازداد الأمر سوءا أن أصبحت وسائل التواصل التكنولوجي هذه أبوابا مفتوحة على مصاريعها ليل نهار لرياح الغيبة والنميمة والبهتان، والنفاق والهجوم علي الآخر دون وازع أو حق، حتى اعتاد الناس ذلك دون أن يجدوا فيه غضاضة. وتلك هي المأساة الكبرى التي أشبه فيها سوء استخدام وسائل التواصل الإجتماعي وغياب عقله كشارب الخمر الذي غاب عقله. وهذا بالطبع لا ينفي أن هناك كثير من الرجال (سيدات ونساء) من وظفوا هذه الوسائل بطريقة نافعة ومفيدة حتى وإن كان الإقبال عليها ضعيفًا.
ولذلك فإني أشفق على الإنسان المعاصر، والذي يحتاج جرعات عالية ومتكررة من الشحن النفسي الذي يعيده إلي فطرته السليمة التي تبعده عن المعاصي والذنوب والقرب من الله. ولأن الوسط الفني للأسف يزيد من تشتت الإنسان تجاه المعاصي، من خلال خلق بيئة تركز على الجريمة، والعنف، والجنس، والسطحية، والعشوائية، والانحراف، واللغة المتدنية التي لا تتناسب مع هذا التطور التكنولوجي الهائل ظنا منهم انهم يعرضون قضايا مجتمعية؛ ولأن النفس البشرية دائما ما تميل بوصلتها إلى المعصية اللذيذة، فعلينا أن نتوقف ونخلوا بأنفسنا من حين لآخر، وفي أوقات محددة و نتساءل عن موقفنا أمام الله ما إذا رحلنا الآن عن الدنيا.
فليسأل كل منا عن وقته، وعمله، وماله، وصحته، وماذا ترك من أثر يفيد من حوله سواء ماديًا أو معنويًا، بعيدا عن حقوق الله من عبادات الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة. الإنسان نفسه هو الوحيد الذي يستطيع أن يحكم علي نفسه، ويقيمها ما إذا كانت تسير في الطريق الصحيح، أم تتخبط يمنة ويسارا، أم حادت تماما عن الطريق وأصبحت رهينة المعاصي وهي مغمضة العينين. وكما أن في تكنولوجيا العصر سهولة في معصية الله، ففيها أيضًا سهولة في إرضاء الله.
فليحاسب الإنسان نفسه، ويقومها، ويجودها قبل أن يرحل عن هذه الدنيا فجأة ويصبح أسير أعماله. فليس هناك إنسان بلا معاصي أو ذنوب، ولكن قد يكون في نية محاسبة الذات أولا بأول، وحسن الظن بالله، والحرص علي ترك الأثر النافع الطيب، سببا في رحمة الله لنخرج من هذا الدنيا ونحن أقرب إلي الله قبل رحيلنا المحتوم قصر العمر أو طال.
اللهم اهدنا إلى الفطرة السليمة، واجعلنا من التوابين.