البداية من ظلمات الرحم.. محطات الضعف النفسي المخيفة في الحياة

ليس الضعف فقط متمثلًا في قوة البدن فهذا أمرٌ مقدورٌ عليه، أما الضعف الأكبر فهو الضعف النفسي والذي وإن تمكن من النفس يهلكها. وإن كانت علامات الضعف الجسدي قد تبدأ بالهزال، فعلامات الضعف النفسي تبدأ بالحيرة والحزن والانكماش والانعزالية والانطواء ثم الاكتئاب الذي يجعل من الإنسان إنسانًا آخر.
ولا يعد الضعف النفسي عيبًا بل هو مسئولية تلقى على عاتق الإنسان من مولده حتى مماته وما عليه إلا أن يتعامل معها بما أوتي من أسباب القوة.
“إذا أغرتنا الدنيا باللعب واللهو فلتكن أعمالنا فوارس تفر من اللعب وتكر على اللهو لتفوز بالجد”
ظلمات رحم الأم أولى محطات الضعف النفسي للإنسان
وتبدأ أسباب الضعف النفسي في إصابة الإنسان من أول محطات العمر منذ أن تدب الروح فيه وهو جنين. فها هو وحيدًا في بطن أمه لمدة تسعة أشهر لا يربطه بها سوي الحبل السري ودقات قلب أمه ليمثل له هذا الوسط العالم الخارجي وإن لم يره. والذي يخفف عن الجنين هذا الضعف النفسي في هذه المرحلة الأولى من حياته هو عدم درايته بالأسباب ولا قدرته على تحليلها أو تدبرها وإن أدركها رغم وجود مخ مكتمل النمو فيه عند قبل الولادة بشهور.
وإن كانت تمثل الحدود الجغرافية لرحم الأم ملاذًا ومأمنًا للجنين، إلا أنه بالطبع يشعر بالقلق والخوف عندما يحدث لأمه مكروهًا سواء ضعف نفسي أو جسدي. وتمثل هذه المرحلة بالطبع أولى محطات الضعف النفسي للإنسان. وتتوالى المحطات على مدار مشوار حياة الإنسان أثناء الطفولة والصبا والشباب والكهولة والشيخوخة والهرم.
الضعف شعور يتملك الطفل ولا يقدر على فهمه
في مرحلة الطفولة، يكمن عمق الضعف النفسي في رؤية الطفل للكبار حوله كعمالقة ليس فقط في بنيان الجسد ولكن أيضًا في بنيان الفكر والتعبير اللفظي والجسدي. وهنا يشعر الطفل بالضآلة الجسدية والفكرية فيتعجب ويتعجل الأيام والسنوات بعمره أن تجري سريعًا لكي يتحقق له الحلم الأكبر في أن يكون عملاقًا في الجسد والفكر كما يري من حوله. وقد يفسر ذلك سهولة تصديق الطفل للقصص الخيالية عن الديناصورات على سبيل المثال، وكذلك الحواديت التي تهول له الأشياء ليستمتع بخيالاتها التي تبدو للكبار شيئًا سخيفًا.
وتصل مظاهر الضعف النفسي في هذه المرحلة قمتها في ارتباط الطفل ارتباطا وثيقًا بوالديه. وقد يصل الأمر إلى تعلقه بهما تعلقًا مرضيًا مما قد يصيبه بالبكاء والخوف والقلق الشديد إذا غاب أحدهما أو مرض؛ لكون الأب والأم يمثلان للطفل مصدر الأمان المالي والأمني والاجتماعي والعاطفي. وإذا فقد أحدهما أو كلاهما يتمكن الضعف النفسي من الطفل وإن تحققت كفالته. وتمثل هذه المرحلة أكثر المراحل العمرية التي يشعر فيها الإنسان بضعفه النفسي بالدليل والبرهان وإن لم يفصح عنه لكونه لا يدرك أو يعي ماهية الضعف النفسي.
المراهقة وصراع الرؤى والأحلام وتعجل الأيام
ثم تأتي مرحلة الصبا والتي بالرغم من قوتها إلا أنها أيضًا مملوءةٌ بمشاعر الضعف النفسي وبشدة. فالإنسان هنا يجد نفسه لا هو بطفل ولا هو برجل كامل النضج. مرحلة يهرب ويتنصل فيها الإنسان من صفات الطفولة ويجري فيها لاهثًا إلى ساحة الرجولة حيث تتغلب عليه وتلح فكرة البلوغ والاستقلالية حتى تكاد تسيطر على فكره وتصرفاته النفسية والجسدية. وهنا تتصارع لديه الأفكار والرؤى والأحلام ويتعجل الأيام ليكون مستقلًا، وأن يعترف الكبار بنضجه. ومن ثم يسيطر عليه القلق والترقب من اجتياز هذه المرحلة القلقة في أسرع وقت ممكن فيجري مندفعًا إلى الأمام دون أن يدرك أو يعي ماهية الضعف النفسي.
مرحلة الشباب والخوف من المستقبل
وتأتي مرحلة الشباب والتي يجد الإنسان فيها نفسه وقد تملكته مشاعر الرجولة الحقة في المظهر والمخبر والسلوك فيسعد أيما سعادة بهذه المشاعر المتدفقة التي يؤصلها فيه كل من حوله من الجنسين خاصة من الجنس الآخر.
ويجري الإنسان ويلهث بأحلامه في هذه المرحلة العمرية حاملًا على كتفيه نياشين القوة الجسدية دون أن يعترف بأي من أسباب الضعف النفسي.
وتمثل هذه المرحلة أطول مرحلة عمرية يعيشها الإنسان بكل تقلباتها المزاجية والتي لا يعترف فيها بأسباب الضعف النفسي بل تسيطر عليه مشاعر الثقة بالذات والندية مع الآخر.
وبالرغم من هذه الفحولة الشبابية إلا أن الضعف النفسي قد يمس النفس أيضًا في هذه المرحلة بسبب الفشل المالي في قلة الإمكانات المادية أو الفشل الوظيفي في الحصول على عمل يتمناه أو الفشل العاطفي في تحقيق حلم رومانسية الحياة.
وعادةً ما يؤدي هذا الضعف النفسي في هذه المرحلة العمرية إلى عواقب وخيمة قد تؤثر عليه في مرحلة الكهولة وما يتبعها في مرحلة الشيخوخة والتي قد تأتي قبل أوانها إذا كانت محطات الضعف النفسي عديدة وعميقة ومؤثرة.
محطة الكهولة والبحث عن الماضي لتعويض ما فات
ثم يصل قطار العمر إلى محطة الكهولة، تمثل المرحلة المتأخرة من الشباب، يشعر الإنسان فيها بأنه قد وصل إلى مرحلة النضج النفسي والوظيفي والمجتمعي والمادي.
وهنا قد يفاجأ الإنسان أن محصلة الكفاح في مرحلة الشباب التي مرت سريعًا دون أن يشعر بها رغم طول سنواتها لا ترقى على الإطلاق لما قد بذله من جهد جهيد.
وقد يصاب الفرد بمشاعر الضعف النفسي التي قد تصل إلى اليأس والاكتئاب لعدم قدرته على العودة إلي الماضي لتحقيق ما فاته وقلة الحيلة فيما تبقى له من العمر لصنع الجديد من الأمنيات. ولا ينتشل الإنسان من مشاعر الضعف النفسي هذه إلا الأمل في تحقيق الأمنيات وإن كان يعلم أنها قد تكون من المستحيلات فيجري الإنسان وتجري بجواره وأمامه وحوله أسباب الضعف النفسي محاولًا لعله يشعل أمنية كانت قد خبأت.
الشيخوخة في محاولة لتسلق أسواء الوحدة العالية
ثم يصل قطار العمر تدريجيًا ودون أن يشعر الإنسان إلى مرحلة الشيخوخة ليعيش على فتات الذكريات وكرم وجود من حوله في منح المشاعر الإنسانية سواء من ولد مازال يتذكره، أو زوج مازال يرغبه، أو صديق مازال يؤنسه، أو جار ما زال يسأل عنه. وهنا تتسلل مشاعر الضعف النفسي مثل المياه إلى الأرض العطشة، ولكن وللأسف تكتشف النفس جفاف كل مصادر المياه فتعيش على ما قد يتساقط عليها من قطرات المطر. وتمثل هذه المرحلة العمرية أكثر المراحل عرضة للتأثر بـكل أسباب الضعف النفسي والجسدي حتى ولو كانت النفس قد حققت إنجازات مادية ووظيفية واجتماعية كبرى في مرحلتي الشباب والكهولة.
وهنا تسيطر على النفس مشاعر الوحدة والخوف والعجز في تسلق أسوار الوحدة العالية؛ فيصبح الإنسان أسيرًا لأسباب الضعف النفسي الذي تضرب فيه يمنةً ويسرةً بلا هوادة ولا أمل في العودة على الإطلاق إلى ما كان عليه فيشعر بالحسرة على ما فات. وهنا تلجأ النفس إلى شراء ثوب الرضا ولو بكل ما امتلكت من مال وجاه وسلطان.
وإن شاء لقطار العمر أن يصل لمحطة الهِرم فلا يجد الإنسان أمامه من سبيل في الحياة سوى الوحدة التي تتمكن منه. وإن هاج الكون حوله ولا يجد أمامه من حيلة سوى الدعوات بقضاء الأجل تحت مظلة رضاء الله.
حتى لا تهزمنا الشدائد
وهكذا نرى النفس منذ مولدها حتى شيخوختها محاطةً شاءت أم أبت بكل أسباب الضعف النفسي. فلا تجد أمامها من منقذ ولا مُعَضد سوى ثوب الرضا الذي يرسله القدر إلينا لنحتمي به من أنفسنا ومن غيرنا حتى نصل إلى باب الرجاء، والرضا بالقضاء والقدر، وبما منع الله وبما أعطي. ومن يتمسك بالقناعة والرضا وقبول أحكام القضاء والقدر قلما يصاب بأعراض الضعف النفسي، وحتى لو أصيب بتلك الأعراض فلن تؤثر عليه طالما قام بأداء ما عليه وبقى في معية الله.
فلنعلم أن كل منا خلق بإمكانته التي ولد بها وتربى عليها حتى البلوغ لسبب ما أراده الله ولو جهلناه في حينه. فعلينا أن نتمسك بحبل الله وأن نحرص دائمًا أن نكون بالقرب من الله حتى لا تهزمنا الشدائد التي لابد وأن تهاجمنا يومًا ما وفي مرحلة ما من العمر. ولابد من الآباء أن يعلموا أولادهم طبيعة الحياة بين الحلو والمر، والفرح والحزن، والنجاح والفشل، واللقاء والفراق، والصعود والهبوط، والغنى والفقر، والصحة والمرض. بل لابد من تدريب الأطفال ليس فقط على ركوب الخيل والرياضة والسباحة والكمبيوتر، بل أيضًا على مفارقات الحياة تلك حتى يكونوا مستعدين لتحمل الشدائد وقبول النتائج مهما كان ثراء المعطيات.